وبه نستعين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين النبى الأمى الأمين
_صلى الله عليه وسلم_
أما بعد؛
سلسلة قصة وعبرة
الجزء الخامس
ومما يزيد المؤمن صلابة في دينه .. وثباتاً عليه .. أن
يحمل هم الدين ..
أن يكون مؤثراً في العصاة لا متأثراً بهم ..
ينصح هذا .. ويعظ ذاك .. ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ..
يدعو بالشريط النافع .. والكتاب المؤثر .. والنصيحة الصادقة .. ليزداد
إيماناً مع إيمانه .. وقوة في استقامته ..
وانظر إلى الجبال الراسيات .. والخطى الثابتات ..
انظر على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
انظر إلى أبي بكر رضي الله عنه .. وتأمل في حرصه على الدعوة إلى الله ..
واعجب من قوة ثباته على الدين ..
أخرج ابن سعد في الطبقات .. والطبري في الرياض النضرة ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته كان يدعو إلى الإسلام في مكة
سراً .. وكان المسلمون يختفون بدينهم ..
فلما تكامل عددهم ثمانية وثلاثين رجلاً ..
ألحَّ أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر .. إنا قليل ..
فلم يزل أبو بكر يلح عليه حتى خرج صلى الله عليه وسلم .. إلى المسجد ..
وخرج المسلمون معه..وتفرقوا في نواحي المسجد..كل رجل في عشيرته..
وقام أبو بكر في الناس خطيباً .. فكان أول خطيب دعا إلى الله .. فلما رأى
المشركون من يسفه آلهتهم .. ويتنقص دينهم ..
ثاروا على أبي بكر وعلى المسلمين ..
فجعلوا يضرِبونهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً ..
وأبو بكر يجهر بالدين .. فأحاط به جمع منهم ..
فضربوه .. حتى وقع على الأرض .. وهو كهل قد قارب عمره الخمسين سنة ..
ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة .. وجعل يطأ على بطنه وصدره .. ويضربه
بنعلين مخصوفين .. ويحرفهما على وجهه .. حتى مزق لحم وجهه .. وجعلت دماؤه
تسيل .. حتى ما يعرف وجهه من أنفه .. وأبو بكر مغمى عليه ..
فجاءت قبيلته بنو تيم يتعادون .. ودفعوا المشركين عنه ..
وحملوه في ثوب .. ولا يشكون في موته .. حتى أدخلوه منزله ..
وقعد أبوه وقومه عند رأسه .. يكلمونه فلا يجيب ..
حتى إذا كان آخر النهار .. أفاق .. وفتح عينيه .. فكان أول كلمة تكلم بها
ان قال : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ؟؟
فغضب أبوه وسبه .. ثم خرج من عنده ..
فقعدت أمه عند رأسه .. تجتهد أن تطعميه أو تسقيه .. وتلحّ عليه ..
وهو يردد : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فقالت : والله مالي علم بصاحبك ..
فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب .. فسليها عنه .. وكانت أم جميل مسلمة
تكتم إسلامها ..
فخرجت أمه حتى جاءت أم جميل فقالت :
إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ؟
فقالت أم جميل : ما أعرف أبا بكر .. ولا محمداً .. ولكن إن أحببت مضيت معك
إلى ابنك ..
قالت : نعم .. فمضت معها ..
فلما دخلت على أبي بكر .. وجدته صريعاً دنفاً .. ممزق الوجه .. ودماؤه تسيل
..
فبكت وقالت : والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر .. وإني لأرجو أن
ينتقم الله لك منهم ..
فالتفت إليها أبو بكر .. وما يكاد يطيق .. فقال : يا أم جميل .. ما فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قالت : هذه أمك تسمع .. قال : فلا شيء عليك منها ..
قالت : سالمٌ صالحٌ .. قال : فأين هو ؟
قالت : في دار أبي الأرقم ..
فقالت أمه : قد عرفت خبر صاحبك .. فكل واشرب الآن ..
فقال : لا .. إن لله علي أن لا أذوق طعاماً أو شراباً .. حتى آتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم .. فأراه بعيني ..
فأمهلتاه .. حتى إذا أظلم الليل .. وهدأ الناس ..
حاول أن يقوم .. فلم يستطع .. فخرجت به أمه وأم جميل يتكئ عليهما .. حتى
ادخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أكب عليه يقبله ..
وأكبَّ عليه المسلمون .. ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة ..
وأبو بكر يقول : بأبي وأمي أنت يا رسول الله .. ليس بي من بأس .. إلا ما
نال الفاسق من وجهي ..
ثم قال : يا رسول الله .. هذه أمي برة بولدها .. وأنت رجل مبارك .. فادعها
إلى الله عز وجل .. وادع الله لها .. عسى الله أن يستنقذها بك من النار ..
فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم دعاها إلى الله .. فأسلمت ..
فهذا الحرص العظيم .. من أبي بكر ..
كان أول ثمراته أن ثبته الله على الدين ..
فإنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم .. شكك بعض الناس في موته ..
وقام عمر رضي الله عنه بسيفه يتهدد من يقول بموته ..
فيرقى أبو بكر المنبر بخطى ثابتات .. ويفصل النزاع بقوله :
من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا
يموت ..
ثم ترتد قبائل حول مكة .. فيقف لهم أبو بكر .. ثابتاً راسياً .. حتى أعاد
قوة الإسلام ..
بل إن من ثمرات هذا الحرص أن أسلم على يديه أكثرُ من ثلاثين صحابياً .. ستة
منهم من العشرة المبشرين بالجنة ..