ما أكثر العبر وأقل المعتبر! فظواهر الحياة تسدي للإنسان دروساً لا تحصى، ولكن هذا الإنسان يحتجب عن هذه الدروس العظيمة في الحياة بحجب سميكة؛ فبدلاً من أن يفتح قلبه على دروس الحياة فيستلهم منها ما يحتاج إليه تراه يعرض ويتغافل عنها.
• الدروس التي تخترق الحجب:
ومع ذلك فإن هناك دروساً في الحياة تخترق الحجب، وتهدم الحصون، سواء شاء الإنسان أم أبى، وهذه الدروس هي الحجج الإلهية الكبرى على الإنسان. ولا ريب أن واقعة كربلاء هي درس من هذه الدروس، فإن كان قلب الإنسان خاشعاً استلهم العبرة من كل ظاهرة في الطبيعة أو في المجتمع أو التاريخ والحاضر، فيعتبر بكل نعمة أنعم الله بها عليه، كما يعتبر بكل نقمة دفعها عنه.
إن القلب الخاشع والقانت والسليم هو القلب الذي يكون كنبتة في مهب النسيم، وهو المثل الواضح لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ((الانفال/2)
ومع ذلك فإن كل الناس ليسوا كذلك، فإن أكثرهم ولو حرصت ليسوا بمؤمنين، بل إن أكثرهم مشركون؛ ومثل هؤلاء بحاجة إلى هزة عنيفة تحطم في قلوبهم كل الجدران التي أقاموها بأنفسهم، ولمثل قلوب هؤلاء كانت كربلاء، وكانت واقعة عاشوراء، وكانت الحوادث المأساوية التي جرت على أبي الشهداء والأحرار الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه، أو ليس الحسين شهيد العبرات والدموع، وشهيد القلوب التي تخشع لمأساته، فإذا خشعت لها خشعت للحقائق التي حدثت تلك المأساة من أجلها وفي سبيلها.
المصيبة التي أدمت جميع القلوب
فالإنسان -أي إنسان- لا يملك عندما يستمع إلى قصة كربلاء إلا أن يخشع قلبه، فهذا الإنسان لابد أن يتأثر وهو يتصور دخول الإمام الحسين إلى كربلاء، وكيف أن القوم استضعفوه، واحتوشوه من كل مكان، وهم الذين دعوه ليكون إماماً وأميراً لهم، ولكنهم جندوا طاقاتهم ضده، وأرسلوا إليه ثلاثين ألفاً ليقتلوه صبراً، ولابد أيضاً من أن تخنق الإنسان العبرة وهو يجسد في ذهنه حالة السبط الشهيد في ليلة التاسع من شهر محرم عندما جلس ينعى نفسه قائلاً:
يا دهر أف لك من خليلِ ـ كم لك بالإشراق والأصيلِ
من صاحب وطالب قتيلِ ـ والدهر لا يقنع بالبديـــــلِ
وإنما الأمر إلى الجـــــليلِ ـ وكلّ حي سالك سبيـــلي
إن القلب الذي لا يخشع لمثل هذا الموقف لابد أن يخشع لموقف آخر وهو موقف الحسين وهو يطلب من ذلك الجيش الهائل الماثل أمامه مهلة ليلة واحدة، فيرفضون هذا الطلب، في حين أنه لم يطلب تلك المهلة لكي يودع أهله فيها أو يتمتع بملاذ الحياة، بل لكي يصلي لربه، ويجدد عهده معه تعالى بالصلاة والقرآن.
وهكذا فكل موقف من مواقف الحسين ، وكل مصيبة من صائبة تكفيان لإذابة الصخرة الصماء، فكيف بالقلوب؟ فإن لم تخشع للمآسي التي حدثت في يوم عاشوراء فهي خاشعة لا محالة للمأساة التي حدثت بعد عاشوراء؛ أي في اليوم الحادي عشر عندما مروا بآل البيت من الثكالى والأرامل على أجسام أعزتهن وهم مقطعون إرباً إرباً… وهكذا الحال بالنسبة إلى مصيبة السيدة زينب عليها السلام في الكوفة، وللمصائب التي نزلت على آل البيت في الطريق إلى الشام، وعند عودتهم إلى المدينة.
وعندما يقول الأئمة المعصومون الذين عصمهم الله من الدنس، وآمنهم من الزلل: "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله" [1]، وعندما يقررون أن المصيبة التي حلت بالحسين لم تحل بأحد في التاريخ لا قبل ذلك اليوم ولا بعده فإنما يبينون بذلك حقيقة هامة أن الله تعالى قد هيأ هذه الفرصة لتخشع القلوب، وليهتدي الناس. فالهدف من كربلاء هو خشوع القلب، وسقوط تلك الحجب والتحصينات التي تصنعها النفس أمام التأثر بظواهر الحياة، فالقلب لا يهتدي إلا إذا خشع، وكيف يخشع وبينه وبين ظواهر الحياة حجب سميكة؟ ومثل هذا الخشوع لا يمكن أن يحصل إلا بمثل ظاهرة كربلاء، ولذلك أصبح البكاء قضية دينية في مثل هذه الحقيقة فالله تعالى يأمرنا بالصبر في كل مصيبة قائلاً: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (سورة الزمر: 10)، (وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) (سورة فصلت: 35).
• لماذا البكاء على مأساة الحسين ؟
فهو تعالى يأمرنا بالصبر في كل موضع، أما في هذه الحادثة فتأمرنا النصوص الإسلامية بالبكاء: حيث روي عن آل الرسول أنهم قالوا: "من بكى وأبكى فينا مائة فله الجنة، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومن بكى وأبكى واحداً فله الجنة، ومن تباكى فله الجنة" [2].
وقال الإمام الرضا : "إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا" [3] فقال الإمام : "يابن شبيب، إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب ، فإنه ذبح كما يذبح الكبش" [4] فالحسين أحق من يبكى عليه، لأن حادثة كربلاء هي أعظم مصيبة وردت على الإنسانية عبر التاريخ.
وهكذا فإن الأمر بالبكاء والندب والنحيب يكمن وراءه هدف وحكمة، فليس عبثاً أن الأئمة كانوا يؤكدون دوماً على البكاء والنحيب، وعلى تجديد ذكرى الحسين ، وكأنها وقعت في الأمس القريب، وكأن الحسين قد استشهد للتو، فلا ريب أن طائفة كبيرة من المسلمين يبادرون إلى تجديد هذه الذكرى كلما مر عليهم هذا الشهر (شهر محرم) الحزين المليء بالعبر والعبرات، فترى المدن تلبس السواد، وتتغشى القلوب بسحابة من الكآبة، وتصطبغ المجالس بلون الدم والمأساة، أو ليس كل ذلك لهدف وحكمة؟ ترى ما هي هذه الحكمة؟
الحكمة من وراء ذلك هي أن القلوب، وعندما تتفاعل مع المأساة فإنها ستخشع لهدف الحسين ولواقعة كربلاء. ومن هنا فإنني أطالب الأخوة الذين يجددون هذه الذكرى المباركة بشكل من الأشكال فيكتبون، أو ينشدون الشعر، أو يرتقون المنابر ويقيمون المآتم والمجالس.. وأطلب من هؤلاء جميعاً أن لا يغيب عن بالهم أن كل هذه المظاهر، مظاهر الحزن والخشوع، إنما تهدف إلى تقريب النفوس من الحقائق، وجعلها تستفيد من عبر واقعة كربلاء.
ولذلك ترى أن الحسين قد ألقى في يوم عاشوراء فقط خمس خطب منذ صبيحة يوم عاشوراء وحتى ظهره، فكان يستغل كل مناسبة ليبين أهداف ثورته، وقد سجل في كل مناسبة، وعند كل مصرع لشهيد بياناً لهدفه، والحكمة التي من أجلها استشهد، حتى امتزج الهدف بالمأساة، فلا الهدف ينفصل عن الماساة، ولا المأساة بمنفصلة عن الهدف. فالحسين خرج إلى كربلاء وفي طريقه كان يردد الآية الكريمة: (تِلْكَ الدَّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (سورة القصص: 83). فكيف نستطيع أن نفصل مسيرة الإمام الحسين إلى كربلاء عن هذه الآية التي كان يرددها في كل لحظة، وكيف نستطيع أن نفصل بينه وبين الصلاة التي أداها وهو في قمة المواجهة، فقد صلى وأوقف اثنين من خيرة أصحابه يتقيانه السيوف والسهام والمعركة دائرة على أشدها، وبالتالي كيف يمكننا أن نعزل المأساة عن الحسين وهو يضع رأسه في آخر لحظة من لحظات حياته على تراب كربلاء قائلاً: «صبراً على قضائك يارب، لا إله سواك يا غياث المستغيثين» [5]!!
وعندما يذبح إبنه الرضيع على يديه الكريمتين يمسك بالدم ويرمي به في الفضاء ويقول: «هوّن ما نزل بي إنه بعين الله تعالى» [6]، فإنه في كل لحظة يسجل هدف ثورته وموقفه، الموقف وهدف الموقف، الحركة وحكمة الحركة، القضية ومأساة القضية.. كل ذلك لا نستطيع أن نفصله عن بعض، ولذلك فإن على خطبائنا الكرام وكتابنا ومؤلفينا وكل من يقوم بدور ما في إحياء ذكرى عاشوراء أن يعرف ماذا كانت حكمة مواقف الإمام الحسين ، وأن يذكر كل موقف مع حكمته، لأن الموقف إنما جاء من أجل تلك الحكمة. فالبكاء وسيلة لخشوع القلب، وخشوع القلب بدوره وسيلة أساسية لقبول الحق